
حكايات رمضانية
ونحن صغار. .ما زالت الصورة ترتسم بكل تفاصيلها في ذاكرتي خصوصا ذكريات رمضان. .قبل الأذان يوجد أمام صالوننا الكبير (قوز رمال) صغير. .نحضر الماء بالجردل (نرش) المكان حتي تثبت الأرض وتكون (بارده) ثم نأتي بال (بروش) ونفرشها علي الرمال. ..نعبئ الاباريق ونضعها في ركن. .ثم نذهب لإحضار الإفطار من بيوت ابي الثلاث كل ما يلي أسرته الصغيرة (أولاد عاشه وأولاد زينب وأولاد شادية )..نأتي بالعصاير أولا ثم الصواني. . ينشغل ابي له الرحمه بتثبيت الماره فقد كان الديوان يقع علي الطريق العام يطل مباشرة علي سهلة البوسته (تآكل هذا الميدان وصار فيه طلمبه ودكاكين وصيدليات ولم يعد يعرف الجيل الحالي انه كان ميدان كبير وفاضي)..هذه السهلة توجد فيها (شجرة العرب ) وهي شجرة بمحاذاة المقابر يأتي العرب الرحل من الخلاء الذين يأتون بغرض التسوق في سوق تنقاسي ويقيمون قربها من الاتنين حتي الأربعاء أسبوعيا.. وهي تمثل (فندقهم) بالمصطلح الحديث. ..يقودون نيرانهم حولها وينيخون ابلهم وتظل الليل كله تصدر أصوات. ..ملابسهم لونه من عرق الحياة كأنها قرب الماء ورائحتهم اذا اقتربت منهم كالسمن من فرط الخير في صعيدهم ومرعاهم ...يجلبون بعض اغنامهم ولا يرجعون منها الا بأواني من دكان الطاهر وملابس الترفيلة (هذا القماش الذي انقرض) وعراريق الدمورية والدبلان وهم يحبون الألوان الفاقعة الحمراء والخضراء. ..نساءهم يلبسن الحجول في ارجلهن والذمام في انوفهن. ..حين يرجعون قافلين فالشجرة تظل فارغة إلا من ظل شحيح وبقايا طعامهم وأثر جمالهم.
السهلة أيضا كانت موقفا ل (لواري الجعليين والمناصير ) الذين يأتون اما للسوق أو عابرين. لواري المناصير كان يميزها رائحة الشمار وكانوا هم يتميزون بالامانة وقصر القامة والارجل المقوسة من اثر شيل عربات الطين.كانت هناك عدد من حفر تغيير الزيت تتناثر جوار حيطة المقابر.
سهلة البوسته كانت تحتوي علي صهريجين مياه ..كانت ساحة أيضا للاحتفال بعيد الاستقلال .
كان ديوان أبي يطل مباشرة علي هذه الفسحة وكل مار من أو الي السوق يمر أمام الديوان وكانت فرصة جيدة لاقتناص الضيوف. كنت حين تجلس أمام الديوان تشعر أن العالم كله يمر من أمامك فتنقاسي كانت ملتقي طرق. .
يؤذن المؤذن. .نأكل تمر البركاوي المبلول والبليلة (حبه لوبه وحبه عيش ريف) نشرب من شوربتها..لواري نعرف وقتها شوربة الخضار المخلوطة بالخلاط. .كان (صحن اللقمة) يتوسط المائدة كالقبه التي يدور حولها الدراويش. .لا يقطع الصمت إلا صوت ابي يا ولد خت الصحن أو مد اللقمة قدام فلان. .جكاكي الحلومور تقدل في عز فهي مبردة بماء تلاجة الجاز حين كانت الكهرباء مجرد حلم. .عصير الليمون يتمغي في نعاس ينتظر شاربيه. ..بعد الصلاة الشاي والجبنه تكون سيدة الموقف. .
كل هذا المشهد كنا نتمنى أن يمر بسرعه حتي يأتي الليل ونذهب الي السوق وكشك ود الدون. .هكذا كنا ننطقها والصحيح هو ود الدول. .تبدأ حركة الناس في النزول الي السوق من أمامنا راجلين (وكداري)..غبار كثيف تراه ينبعث من حركة المرور. . أصوات صاخبة من جهة سوق الحراز. .السوق يضج بالحركة. ..دكان المرحوم محمد شريف تري فيها زحام الراغبين في شراء ملابس العيد. .كان السوق بمثابة النادي الاجتماعي والاقتصادي والسياحي.
صوت أذان العشاء يقطع كل ذلك. .والمؤذن المرحوم عمر شونكيلية والتراويح بصوت الإمام المرحوم أستاذ الفاضل.
ينصرف بعدها الناس كل الي حال سبيله
هكذا كانت تنقاسي في الثمانينات من القرن الماضي. .
#حكايات_رمضانية
#تنقاسي
#ايام زمان#
#عامر _عوض